Tuesday, May 12, 2009

عين شمس .. و الاكتشاف المتأخّر للغفله




يبدو أن الأفلام الجيّده تماما مثل الأفلام الرديئه .. يصعب جدّا الحديث عنها و إن كان السبب فى الصعوبه بالنسبه لتلك الجيده هو شعورنا الدائم بالعجز عن أن نوفيها حقّها من الحديث و الإعجاب المشوب بالاحترام ..

شعرت بهذا بعد خروجى من فيلم "عين شمس" الذى شاهدته اليوم فى حفلة الرابعه مساء مع اثنين فقط من المشاهدين !! بعد خروجى من السينما شعرت بحاجه شديده للسير ببطء كى لا أخرج من حاله وضعنى فيها الفيلم .. وضعت على عينىّ نظّاره داكنه و سرت مسافه قبل الركوب للعوده للمنزل ..


فيلم "عين شمس" يمكن تلخيص خطّه الرئيسى فى سطور قليله : أب يكتشف إصابة ابنته الوحيده "شمس" بسرطان الدم فيقرر أن يحقق لها حلمها الوحيد البسيط و هو زيارة منطقة وسط البلد التى رأتها الإبنه فى المنام و كانت المنطقه جميله كما تظهر فى كتب اللغه الإنجليزيه لكنّها حين تحقق حلمها أخيرا بزيارتها تجد أنّها كانت فى الحلم أجمل بكثير .. فترحل إلى حيث تظل الأحلام جميله و مبهجه ..


بعد خروجى من السينما كان شعور رهيب بالغفله أو الاستغفال ينتابنى !! لقد ظللت لسنوات طويله أتفرّج على الأفلام و أظن أنّى أستمتع بها و أنّها تمارس معى دورا تنويريا بجانب ما تقدّمه لى من متعه لكنّى اليوم شعرت أنّى كنت مغفّله .. بعد الفرجه على الفيلم لا أدرى لماذا جاءت على بالى الأفلام التى يدّعى صانعوها أنّهم مهمومون بالشأن المصرى العام و بمشاكل المهمّشين و المطحونين فى هذا البلد و شعرت أن "عين شمس" يضع هذه الأفلام بكل بساطه فى خانة الأفلام السوقيه .. السوقيه بمعنيين : سوقيه وهى المضاده للرقى و الجمال و سوقيه بمعنى استهلاكيه مثل الأكل السوقى الذى يتناوله الإنسان مضطرّا و ليس لأنّه يستمتع به !!


فى "عين شمس" هناك فقراء و هناك مطحونين و هناك غلابه .. لكنّهم ليسوا هؤلاء الذين تراهم مثلا فى أفلام "خالد يوسف" وما يشبهها .. ليس هناك فتاه منحرفه اغتصبها حبيبها أو غرّر بها فاضطرّت للعمل راقصه و ليس هناك زنا محارم وليس هناك نساء تصرخ و تولول و تردح و ليس هناك مجاذيب و ليس هناك أكوام زباله أو مواسير صرف صحّى بتسرّب !!


ليس هناك أى قدر من القبح بل لقد تساءلت باندهاش خلال المشاهده : هى "عين شمس" -المنطقه التى يعيش بها معظم الأبطال- جميله كده !! الفيلم الذى يناقش قضيه ثقيله فعلا وهى انتشار السرطان بسبب التلوّث الذى نعيش خلاله إلى جانب عدد كبير من القضايا الهامّه التى أشار لها الفيلم بإيجاز بديع و غير مخلّ على الإطلاق .. هذا الفيلم لم يتذرّع بمناقشة هذه القضيه التى لا أظن أى فيلم آخر قد تصدّى لها على كثرة المدّعين كى يغرقنا فى بحار من الظلام و السوداويه !! بل كان به قدرا من السخريه اللطيفه و جماليات الصوره و المكان جعل مشاهدته ممتعه بحق برغم النهايه الأليمه المتوقّعه !!


فى "عين شمس" هناك رسائل غير مباشره كثيره يرسلها الفيلم لمشاهده دون تكلّف أو افتعال و بدون تعالِ عليه كذلك .. فنرى فى أحد المشاهد والد "شمس" و يعمل سائق تاكسى و قد توقّف لشاب ظنّه أصيب فى مظاهره .. و ينصح الأب الراكب بالابتعاد عن هذه الأمور و أنّه يفعل هذا اتّقاء لقلمين ينزلوا على وجهه أو أن ينكسر زجاج سيارته و هى مصدر أكل عيشه .. ثمّ قرب نهاية الفيلم و الأب ذاهب مع "شمس" لوسط البلد يجد زجاج سيارته مكسورا بشكل غامض !! وقبل أن يفكّر أنّه كُسِر بفعل فاعل تخبره جارته أن أحدا لم يقترب منه !! لندرك أن الزجاج هو الآخر أصابه السرطان و أن المشى جنب الحيط ليس دائما ضمان أن يظل الإنسان بمأمن !!


كذلك هذا الربط البديع كذلك الذى أجراه الفيلم بين المنطقه التى تدور فيها الأحداث و بها من المواقع ما لجأت إليه العائله المقدّسه وقت هروبها إلى "مصر" حيث قرّرت أم "شمس" أن تأخذها لشجرة "مريم" فى منطقة "المطريه" بعد علم الأم بمرض البنت كى توقد شمعه هناك ثمّ تسترسل فتحكى للإبنه حكاية هروب العائله المقدّسه و احتمائها ب "مصر" التى كانت آمنه ثمّ ينتهى المشهد بالأمّهات المصريات -الخائفات مثل "مريم" العذراء على أبنائهن- فى معهد الأورام و الخوف مرتسم على وجوههن !! حقيقة كان مشهد مدهش جدّا بالنسبة لى ..


و مشهد آخر حيث يجلس زبائن إحدى المقاهى فى انتظار مشاهدة مباراه هامّه على وصلة الدِش فيقرر صديق "شمس" و جار الأسره أن يذيع عليهم من خلال الوصله فيلم للتوعيه بمرض السرطان بدلا من المباراه فيغضب الجميع و يطالبوا بعودة المباراه و مش ناقصين وجع قلب و سرطان إيه اللىّ هنتكلّم عنه !!


كل هذا غير إشارة الفيلم من بدايته لأن السرطان الذى انتشر فى "العراق" بعد حرب الخليج الثانيه كان سببه دخولها فى حرب انتهت لضرب أسلحتها و جيشها باليورانيوم المخصّب فكيف انتهى الحال ب "مصر" التى لم تدخل حروبا لنفس الحال إن لم يكُن أسوأ !!


بعيدا عن الجانب الفكرى الذى يشبعه الفيلم بشكل مبهر هناك طاقم التمثيل و معظمه لوجوه غير معروفه و بعضها معروف بالكاد لكنّهم جعلونى أكتشف روعة مشاهدة فيلم كل من يمثلون به غير معروفين و ليس لدينا عنهم انطباعات مسبقه وليس لنا معهم خبرات تمثيليه سلبيه .. بشكل رئيسى الممثل الذى أدّى دور والد "شمس" بهذا الهدوء المسيطر على انفعالاته رغم صعوبة موقفه كان اكتشاف بالنسبة لى .. فهو لا يصرخ ولا يهتف ولا يندّد بالحكومه بل إن الحديث يتوقّف على لسانه و هو يسأل مرشّح مجلس الشعب ماذا يأكل و الهواء ملوّث و المياه كذلك و الفراخ بالهرمونات و السمك فاسد و اللحوم بها جنون البقر .. هو لا يحتكر الشاشه كى يهتف و يشبع نرجسيته ولا أحد يحمله على الأعناق ليمارس الهتاف الذى أدمنه البعض .. هذه الفتاه الجميله ذات الملامح المصريه الذكيه التى مثّلت دور "شمس" ببراءه حقيقيه ربّما كى تؤلمنا أكثر على ما ينتظر أهلها من حزن بعد رحيلها .. شعرت و أنا اشاهدها بافتقادى الحقيقى لرؤية أطفال يمثّلون دور أطفال و ليس أولئك الأطفال المتحذلقين الذين ابتلينا بهم مؤخّرا ولا علاقة لهم ببراءة الأطفال و الجمال الذى يشيعه وجودهم ..


من جماليات الفيلم أيضا هذه العلاقات الصحيّه التى تربط شخوصه .. فمعلّمة "شمس" تحبّها و تعطف عليها رغم أنّها لا تحب استسلامها المطوّل للخيال و هى ممثله تشعر أنّها بالفعل مدرّسه فى مدرسه ابتدائيه تتعامل بإنسانيه مع تلامذتها !! و جار "شمس" و صديقها الذى يظل محتفظا بطائرتها الورقيه فى السماء بعد رحيلها بأربعين يوم .. و حتى العلاقه بين والد "شمس" و مخدومه ساكن "الزمالك" و الذى يقود والد "شمس" سيّارته الخاصّه هو رجل أعمال تربطه بالأب علاقه نتخيّلها فى البدايه علاقة عمل فقط ثمّ نكتشف لها جانب إنسانى أيضا .. الفيلم لا يصفّى حسابات فئه مع فئه أخرى بل يكاد يقول أنّ الجميع ضحايا .. ضحايا ما وصفه ساخرا فى نهايته بالجوّ الحار .. فالناس فى "مصر" تفشل بينما قد تنجح بنفس المجهود خارجها ليس بسبب الظلم ولا القهر ولا الفساد .. بل لأن الجو فى "مصر" حار بينما فى الخارج الجو بارد بل و بارد جدّا أحيانا ..


على الرغم من أن الفيلم يُعرَض بالسينمات منذ أسبوع بالظبط لم تلتفت البرامج الفضائيه الهامه لعرضه كحدث هام خاصة مع حصوله على عدد من الجوائز خارج "مصر" !! "العاشره مساء" التى أفردت فقرات لأفلام مثل "كباريه" و "حين ميسره" و "واحد صفر" بل و أعادت عرض حلقة فيلم "كباريه" لم تفرد فقره مماثله لهذا الفيلم المتميّز !! و حسب علمى و متابعتى المحدوده لم يحظَ الفيلم باهتمام إعلامى يعوّض نقص الدعايه له ولا أستطيع أن أفهم سببا مقبولا لهذا التجاهل المُخجِل من برامج يدّعى صانعوها تحيّزهم للفن الرفيع و الإبداع الحقيقى !! وهى خساره ليست للفيلم بقدر ما هى خساره لمن لم يشاهدوه و لمن لم يهتمّوا بإعطائه حقّه من التقدير و الاحتفاء ..